بين معارضة بناءة وأخرى هدامة
************************
شهدت قريش قبل البعثة حلفا تعاقدت عليه عشائرها سمي ب
"حلف الفضول " ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم احد شهوده
وهو ابن عشرين سنة ، وقال عنه لاحقا :
"لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" (1)
وقد تقاسموا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى
إليه وعلى التأسي في المعاش.
ثم كانت المعاهدة التي ابرمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود
المدينة فور هجرته اليها ، وقد أكدت على مفهوم الحرية والعيش المشترك
واحترام الآخر وقبوله في اطار دولة الاسلام .
لقد كانت هذه المعاهدة بمثابة قواعد دستورية حاكمة تقبل فيها الاقلية
تصورات الاغلبية للحكم الرشيد (2)، يقابله ضمان الاكثرية لحقوق الاقلية
في الحرية والمواطنة والعدالة ، وعلى ان تنتظم القوانيين جميعها تحت
سقف الدستور ، الذي هو حقيقة بمثابة عقد اجتماعي ، ارتضته اغلبية
المواطنين لتنظيم شؤون حياتهم ومستقبل امتهم ، وبطبيعة الحال فان
المسلمين حيثما وجدوا كاكثرية ، وجب عليهم التزام محددات الشريعة
كسقف لا يجوز باي حال تجاوزه عند سنهم للقوانين والتشريعات المنظمة .
وعندما نتحدث عن الحكم الرشيد ، لا يمكن اطلاقا اغفال المعارضة الرشيدة
ايضا ، فالثلة الحاكمة بشرية بطبعها ، تخطىء وتصيب ، وفي مطلق الاحوال
لا يمكن انكار التباين بين ابناء الامة في النهج والسياسات والبرامج ،
الامر الذي يجعل من المعارضة ضرورة ملحة في اطار التناصح والتسديد
والتنافس ، وخاصة ان الحكومة والمعارضة تلتزم ما تعاقد عليه الناس ،
وتقبل الاحتكام الى الشريعة .
والمعارضة قد لا تكون ايضا على نسق واحد ، فقد تلتقي في مسائل
وتختلف في اخرى ، وقد تكون معارضة بناءة وفية لجمهورها وما تعاقد عليه
، او هدامة في اسلوبها واهدافها غير عابئة بكل ذلك .
والمعارضة البناءة ، تستلهم الرشد في اهدافها ووسائلها ، ايمانها بنبل الغاية
لا ينفصل عن ايمانها بشرف الوسيلة ، معارضة تلتزم القاعدة الشرعية
الملزمة التي تقضي في التعاون على البر والتقوى ، فما وفق اليه الحاكم
لمصلحة الامة ، تؤيده وتباركه وتتجند لخدمته ، وما اخطأ فيه ، تعارضه
وتحاول تسديده ، وتسعى فيه بالتدرج ، فيأتي النصح اولا ، فان لم
يستقم الامر به ، وانحازت الى غيره ، فانما لا يتخطى ذلك حدود المصلحة
العامة ولا يهدد أمن المجتمع باي حال .
اما المعارضة الهدامة ، هي بين امرين:
اما ان تسعى لنقض العقد الاجتماعي من اساسه ، كالسعي الى العلمنة ،
والغاء المفاعيل الحقيقية لمرجعية الشريعة ، وهي بذلك معارضة فاسدة
مفسدة .
واما ان تسعى الى التغيير بالقوة لاحلال مفاهيم خاصة وتفسيرات جامحة
للشريعة ، فيكون في سعيها الفتنة واراقة الدم الحرام ، والزام الناس بالقوة
بنصوص جامدة توافق ظاهر النصوص ، وتخالف مقاصدالشريعة ، وهي بذلك
معارضة فتنة .
فبين المعارضة البناءة والمعارضة الهدامة ، ان الاولى وفية لمقاصد الشريعة
وتتعبد الله في الغايات والوسائل ، اما الثانية فمتمردة واقصائية وتبريرية.
وان الامة الصالحة ، يتكامل جهد ابنائها بين الحكومة والمعارضة لتاكيد مفاهيم
الحق والعدل والحرية .
قيم ثلاث ، تشكل اقنوما لحياة الامة وتقدمها وعلو شأنها ، وانبعاث حضارتها .
بقلم أمين قلاوون
---------
(1) -الراوي: عبدالرحمن بن عوف المحدث: الألباني - المصدر: فقه السيرة - الصفحة أو الرقم: 72
خلاصة حكم المحدث: سند صحيح لولا أنه مرسل. ولكن له شواهد تقويه وأخرجه الإمام أحمد مرفوعاً دون قوله, لو دعيت به في الإسلام لأجبت وسنده صحيح
(2) - اود التنبيه لمسالة الاقلية والاكثرية الواردة في المقال ، فانما نقصد به الاقلية من غير المسلمين ، باعتبار المسلمين أمة واحدة حتى ولو اختلفت مواقفهم السياسية ، وان حاكمية الاسلام بالنسبة للمسلمين ليس محلا للمناقشة ، ولا تحتاج لاستفتاء