لبنان اي وطن (الحلقة الثالثة )

الموحدون الدروز

المواقف السياسية والعسكرية

تبنى الدروز منذ نشأتهم سياسة استراتيجية تهدف بشكل أساسي الحفاظ على وجودهم وعقيدتهم ، لذلك نراهم قد اوقفوا نشر المذهب وحصروه بالتوارث بينهم حتى لا يثيروا حفيظة الطوائف الكبرى ، وأظهروا تسامحا نحو الاديان الاخرى ، كما أنهم بنوا نظاما داخليا طبقيا صارما للامساك بكل مفاصل الطائفة العقدية والسياسية والاجتماعية ، وبالتالي قيادتها برجال موثوقين على كل الاصعدة وخاصة الجانب العقدي منها ، مما يفسر الاستقرار المذهبي من جهة والحراك السياسي النشيط من جهة أخرى.
ولذات الاسباب حرصت القيادة السياسية للطائفة عبر تاريخها على استرضاء السلطة الحاكمة والمحاربة في صفوفها اذا لزم الامر ، يضاف الى ذلك الخوف من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الفرق الضالة ، الامر الذي دفعهم الى ممارسة التقية وإخفاء معتقدهم عن الغرباء.
كما أنهم أدركوا خطورة التعاون مع الغزاة الطارئين كالصليبيين وغيرهم ، لقناعتهم بحتمية زوال الغزو وعودة الحق لاهله، لذلك لم يتوانوا عن المشاركة في معارك التحرير بل وقيادتها احيانا كما حصل في سوريا بمواجهة الفرنسيين سنة 1925 ، غير أن الدروز طالما احسنوا قراءة الحراك السياسي الدولي لذلك بنوا سياسة برغماتية لا ثابت لها تتحرك وتدور حيث المصلحة وبما يضمن سلامة الطائفة والحفاظ على نفوذها ومواقعها.
من هذا المنطلق حارب الدروز باخلاص الى جانب المسلمين في مواجهة الصليبيين ، ثم ساعدوا هولاكو ابان غاراته على بلاد الشام ، وعندما اشتد ساعد العثمانيين قاتلوا الى جانبهم بقيادة أميرهم فخر الدين المعني الاول ، وكان الثمن دائما اقرارهم على ممتلكاتهم وعدم التعرض لعقيدتهم ومنحهم قدرا من الحكم الذاتي ، وليس أدل على ذلك من نظام القائمقاميتين الذي اعتمد في جبل لبنان احداهما للدروز.
و عندما اصبح التمدد المسيحي المنطلق جنوبا يطرق ابوابهم وبين ظهرانيهم حارب الدروز المسيحيين ، الامر الذي استغله الغرب مما أدى الى التدخل الفرنسي وصولا الى الانتداب عقب الحرب العالمية الاولى ، وكان للدروز ايضا دور مهم في محاربة القادمين الجدد واستقلال لبنان وسوريا معا.

أزمة الدروز والموارنة

قام الموارنة في القرن السابع عشر وبتشجيع من الامير الدرزي فخر الدين المعني الثاني بحملة توسعية هائلة ، حيث غادروا معاقلهم الجردية في شمال لبنان باتجاه الجنوب الى كسروان معقل الشيعة حينها ، فتراجع الشيعة الى البقاع ، كما هاجر الموارنة بأعداد كبيرة نحو المناطق الدرزية في عمق الجنوب ، كان هدف الامير فخر الدين الاستفادة من هؤلاء في الاعمال الزراعية والصناعية ، فمنحهم مساحات واسعة من الاراضي يستملكونها بعد استثمار عشر سنوات لصالح اسيادهم الدروز ، وقد نظمت الكنيسة المارونية هذه العملية لصالحها ، الامر الذي أدى الى استملاكها في منتصف القرن التاسع عشر ربع اراضي جبل لبنان وفي بعض المصادر ثلثها ، كذلك اصبحت منطقة كسروان مع بداية القرن الثامن عشر مارونية بأكملها، هذه الطريقة طبقها الصهاينة فيما بعد في فلسطين.

هذا الانتقال الكبير وفر مجالات عمل واسعة للفلاحين بادارة الكنيسة ، فاغناها من جهة وشجعها للاستمرار فيما بعد على التوسع على امتداد طريق بيروت – دمشق وفي بيروت ذاتها والطريق الساحلي المؤدي اليها وكذلك الى الشوف وجزين ، والتف حزام من القرى المارونية و المسيحية حول السكان الدروز المتمركزين في الشوف وبعبدا وعاليه .
ومع ازدياد نفوذ الموارنة والدعم الخارجي فضل بعض امراء الدروز من آل شهاب التحول الى المسيحية لاستغلال مزيد من النفوذ مع محاولتهم ستر هذا التحول ، الا أن هذا التحول أثار لدى الموارنة مشاعر أكثر حدة دفعهم الى مطالبة الشهابيين الى اعلان انتمائهم للمسيحية ، اعترافا بقوة الموارنة المتنامية إضافة الى طموحهم الى سلطة سياسية تلائم تفوقهم العددي والمالي .

مع هذا التنامي في قوة الموارنة , شعر الدروز شيئا فشيئا بالخطر، لذلك شهدت مناطقهم سلسلة من الاضرابات عام 1820 وتكررت عام 1840 وعام 1860 وأدت بشراستها الى فرط التوازن بين الدروز والموارنة، ورغم التفوق العددي والمادي للموارنة ، نجح الانضباط الدرزي في كسب المعركة عسكريا ، إلا أن الموارنة نجحوا في كسبها سياسيا ، واصبح جبل لبنان مقاطعة مستقلة سيطر عليها الموارنة في ظل وصاية ست دول أجنبية ،مع اعتماد مجلس إدارة منتخب يمثل ستة عشر طائفة، ولأول مرة تستعمل عبارة " لبنان " استعمالا رسميا محدد المضمون ،وامتدت هذه الحكومة رسميا حتى عام 1920.

لا يزال إرث تلك المواجهات يشكل الى اليوم آفة حقيقية ، لقد أدت الى ولادة الصراعات الطائفية ، وإستغل الطامعون هذه الصراعات وبات لبنان منذ عام 1840مسرحا للتنافس الدولي ، لقد دعم الفرنسيون يومها الموارنة والبريطانيون الدروز وجعل الروس انفسهم حماة الارثوذكس ، واصبح تقليدا لا يزال ساري المفعول الى يومنا هذا أن يعتمد اللبنانيون على دعم السفارات الاجنبية والعربية ، وأن تستمد الاحزاب والقيادات السياسية الطائفية المال والنفوذ والسلاح عبر هذه السفارات في مواجهة بعضها لبعض ، وعلى رأس هؤلاء طائفتي الدروز والموارنة .
سنة 1976 صرح مدير المخابرات المركزية الاميركية وليم كولبي بأن وكالته قدمت في الخمسينات سلاحا ومالا الى الكتائب والى حزب الطاشناق الارمني ، ويقول مراسل الواشنطن بوست جوناثان رندل : قال لي أحد السفراء الامريكيين السابقين في لبنان خلال الخمسينات " اننا نبتاع الناس في لبنان بسعر الجملة " ويتابع لن اندهش اذا عرفت أن جميع الشخصيات الهامة في لبنان تقبض من ال" سي. آي. آي."

وكتب ايضا أحد عملاء المخابرات الاميركية " ويلبر كرين ايفلند " يقول في كتاب نشره سنة 1980ropes of sand: مولت المخابرات الاميركية الانتخابات النيابية اللبنانية عام 1957 وأن سفير الولايات المتحدة آنذاك رونالد هيث ،أصر على تمويل تام لحملة في مواجهة سبعة سياسيين أقوياء استقالوا من مناصبهم احتجاجا على سياسة الرئيس شمعون الموالية للاميركان ، وقد كلفت هذه العملية وحدها يومئذ خمسون ألف دولار أميركي، يومها لجأ خصوم شمعون الى المصريين والسوريين ، وأدت الازمة الى حرب سنة 1958.

في المقابل لم يقصر الفرنسيون والبريطانيون والسوفييت والمصريون في تمويل المرشحين الموالين لهم ، هذا الامر يعود ليؤكده " مايلز كوبلاند " أحد منظمي وكالة المخابرات المركزية الأميركية في كتابه "لعبة الأمم

أمين قلاوون

» لبنان اي وطن ....(الحلقة الثالثة عشر )
» سوريا .....نهاية مرحلة (الحلقة الثالثة )
» سلسلة الانحراف الشيعي الاثنا عشري (الحلقة الثالثة )
» لبنان اي وطن ...(الحلقة الثامنة )
» لبنان اي وطن .......(الحلقة التاسعة)